عندما تصبح الخيارات عبئًا

يعتبر وجود الخيارات أمرا حيويا في حياتنا اليومية. فقد نجد انه كلما كانت لدينا خيارات متعددة، زادت فرصنا في اتخاذ قرارات و اختيار الانسب و تحسنت جودة حياتنا و زادت سعادتنا. فالتنوع في الخيارات يساهم في تعزيز الشعور بالحرية والتمكين و يمكن الشخص من مقارنة البدائل و بالتالي اتحاذ قرار يتناسب مع احتياجاته و ظروفه. على سبيل المثال، عند اختيار منتج معين ، يمكن للفرد أن يقارن بين الجودة، السعر، والعلامة التجارية ليختار الأفضل بالنسبة له. ولكن، هل هذا التنوع دائمًا في صالحنا؟

 وجود الخيارات المتعددة: سلاح ذو حدين

 في الواقع، أظهرت العديد من الدراسات أن كثرة الخيارات قد تؤدي إلى مشاعر التشتت، التردد والقلق. فقد تناول الباحثون تشيرنيف وبوكينهولت و جودمان (Alexander, Bokenholt & Goodman) ظاهرة الافراط في الخيارات choice overload جيث تؤدي كثرة الخيارات الى نتائج سلبية في عملية اتخاذ القرار. يوضح الباحثون أنه بينما يُعتبر الاختيار أمرًا مفيدًا عادةً، فإن وجود عدد مفرط من الخيارات يزيد من العبء الإدراكي والإرهاق الذهني، مما يصعّب اتخاذ قرارات مرضية. يشير البحث إلى أن الأفراد يعانون من القلق وعدم اليقين، حتى بعد اتخاذ القرار، بسبب تعدد البدائل المتاحة. حيث يمكن أن تسبب الخيارات الكثيرة شعورًا بالعجز عن اتخاذ القرار الصحيح. يعتقد بعض الاشخاص أحيانًا أن الخيار الذي لم يختاروه قد يكون الأفضل، مما يؤدي إلى شعور بالندم بعد اتخاذ القرار، حتى لو كان الاختيار نفسه مقبولًا.

عام 1970 تناول الكاتب الامريكي ألفن توفلر (Alvin Eugene Toffler) في كتابه”صدمة المستقبل” (Future Shock) مفهوم الافراط في الاختيار كظاهرة حيث تؤدي كثرة الخيارات المتاحة للانسان إلى التوتر والارتباك وصعوبة اتخاذ القرارات. فمع تقدم المجتمع و التكنولوجيا، يمكن ان يواجه الانسان صعوبة اكبر في الاختيار عندما يكون امامه عدد هائل من الخيارات في جوانب مختلفة من الحياة – بدءًا من السلع الاستهلاكية إلى قرارات نمط الحياة. فذلك يمكن أن يصيبهم بالاحباط. تتميز هذه الحالة، التي أطلق عليها “الإفراط في الاختيار”، بإحساس بالشلل في اتخاذ القرار بسبب العدد الهائل من الخيارات، مما يؤدي إلى الشعور بعدم الرضا أو حتى الندم.

عبء الخيارات- الافراط في الاختيار

كانت رؤية توفلر متقدمة على عصرها، حيث توقع العديد من التحديات التي نواجهها اليوم في عصر تهيمن عليه ثقافة المستهلك والإنترنت والتدفق المستمر للمعلومات. يظل مفهوم “الإفراط في الاختيار” ذا صلة، خاصة في سياق الاستهلاك الحديث والمساحات الرقمية حيث تتوفر خيارات لا حصر لها، من المنتجات إلى المحتوى، في متناول أيدينا. على الرغم من أن التكنولوجيا قد سهلت حياتنا من خلال توفير خيارات متنوعة وسهلة الوصول إليها، إلا أن الأبحاث تشير إلى أن الإنسان قد يصبح أكثر قلقًا كلما ازداد عدد الخيارات المتاحة له. فكل خيار يحمل في طياته توازنًا دقيقًا بين المزايا والعيوب. فالضغط لاختيار الأفضل قد يتسبب في تعطيل القدرة على اتخاذ القرار بشكل سريع وفعال.

مفارقة الاختيار

عام 2004 تناول عالم النفس الاميركي باري شوارتز (Barry Schwartz) في كتابه The (paradox of choice) مفارقة الاختيار احد أهم الالغاز في حياتنا الحديثة: لماذا تشهد مجتمعاتنا الحديثة- التي يتوفر لديها المزيد من الحرية و الاختيار – اكثر من اي وقت مضى المزيد من الاكتئاب و التعاسة و القلق؟

قد يشكل وجود الكثير من الخيارات في عصرنا الحالي تحديا”كبيرا” و يكون سببًا في زيادة التوتر والقلق بدلاً من السعادة والراحة. هذه الفكرة تُعرف بمفارقة الاختيار، والتي تقوم على فكرة أن العديد من الخيارات قد تجعلنا أقل قدرة على اتخاذ قرارات مستنيرة وأكثر عرضة للندم والقلق. إن صعوبة اتخاذ القرار ليست مقتصرة على الأمور الحياتية الكبيرة مثل اختيار شريك الحياة أو اتخاذ خطوات مهنية حاسمة، بل تتجلى في أبسط القرارات اليومية مثل اختيار الملابس، السيارات، مستحضرات تجميل، الهواتف المحمولة ،اثاث منزل او حتى الطعام و الشراب. عندما نواجه مجموعة من الخيارات، يبدأ العقل البشري في تقييم كل منها بناءً على معايير متعددة. هذه العملية قد تكون مرهقة وتستغرق وقتًا طويلًا، مما يؤدي إلى زيادة الضغط النفسي على الفرد.

عبء الخيارات– مفارقة بوريدان

من أهم المفاهيم التي تشرح مفهوم حرية الارادة و صعوبة اتخاذ القرار في ظل وجود خيارات متعددة هي “مفارقة بوريدان” (Buridan’s Paradox). وهي مفارقة فلسفية أطلقها الفيلسوف الفرنسي (Jean Buridan) جان بوريدان في القرن الرابع عشر. تتحدث هذه المفارقة عن حمار جائع للغاية يقف على مسافة متساوية من كومتين من التبن، بحيث لا يستطيع أن يقرر أي واحدة يختار منها. بما أن الكومتين متساويتان تمامًا في الجودة، فإن الحمار لا يستطيع اتخاذ قرار بسبب عدم وجود سبب منطقي يجعله يفضل إحداهما على الأخرى. في النهاية، ظل الحمار في حالة من التردد والتأجيل حتى مات جوعا”.

هذه المفارقة تُمثل مشكلة حقيقية يمكن أن نواجهها في حياتنا اليومية عندما نجد أنفسنا أمام خيارات متساوية، أو خيارات لا تختلف بشكل كبير عن بعضها البعض. في مثل هذه الحالة، قد يتسبب التردد في العجز عن اتخاذ قرار بشكل نهائي، مما يؤدي إلى تأخير القرار أو حتى عدم اتخاذه تمامًا.

كيف نتعامل مع الخيارات المتعددة؟

  1. تقليص الخيارات: أحد الحلول التي تقدمها الدراسات النفسية للتغلب على مشكلة الخيارات الكثيرة هو تقليص عدد الخيارات المتاحة. عندما تواجه عددًا محدودًا من الخيارات، يصبح اتخاذ القرار أسهل وأكثر فعالية.
  2. تحديد الأولويات: قبل اتخاذ اي قرار يجب عليك أن تحدد أولوياتك ومعاييرك بشكل واضح. ما الذي يهمك حقًا في الحياة؟ ما هي القيم التي توجه قراراتك؟ إذا كانت لديك أهداف واضحة، سيكون من الأسهل تقليص الخيارات بناءً على ما يتماشى مع هذه الأهداف. على سبيل المثال، إذا كنت تقرر بين عروض عمل متعددة، فكر في أولوياتك: هل تبحث عن المال؟ الوقت الحر؟ التطوير المهني؟ المنصب؟ هذا يساعد في تصفية الخيارات التي لا تتوافق مع تلك الأولويات، مما يسهل عملية الاختيار.
  3. الثقة في الاختيارات: بعد اتخاذ القرار، من المهم أن يثق الفرد في اختياره ولا يتردد في العودة إلى الوراء. شعور الندم بعد اتخاذ القرار يمكن أن يعقد الأمور ويزيد من القلق.
  4. التسامح مع الأخطاء: في بعض الأحيان، قد لا يكون القرار الذي تم اتخاذه هو الخيار الأمثل. عندما تواجه مشكلة مشابهة في المستقبل، تذكر كيف اتخذت قرارات سابقة وكيف كانت النتائج. من المهم أن تتعلم من الأخطاء بدلاً من الاستغراق في التفكير المفرط، مما يمكن أن يؤدي إلى تحسين قراراتك في المستقبل.من المهم أن تتذكر أن كل خيار يحمل مميزاته وعيوبه، وأن الفكرة الرئيسية هي الاستفادة القصوى من الوضع الحالي بدلًا من القلق بشأن الخيارات التي لم تتم.
  5. طلب المشورة: في بعض الأحيان، قد يكون من المفيد استشارة الآخرين. يمكن أن يقدّم لك شخص ذو خبرة أو منظور مختلف نصائح قيّمة، خاصة في القرارات المعقدة أو عندما تكون خياراتك متشابهة للغاية.

الخاتمة

يظل اتخاذ القرار في ظل وجود خيارات متعددة تحديًا مستمرًا في حياتنا اليومية. ورغم أن هذه الخيارات قد توفر لنا حرية أكبر، فإنها قد تؤدي إلى تعقيد الأمور وزيادة التوتر والقلق. لكن مع بعض الاستراتيجيات مثل تقليص الخيارات وتحديد الأولويات، يمكننا تحسين قدرتنا على اتخاذ قرارات أكثر ثقة وفعالية. وبينما تمثل مفارقة بوريدان تذكيرًا بتحديات التردد، فإنها تدعونا أيضًا إلى التفكير في كيفية التعامل مع الخيارات بشكل أكثر اتزانًا وحكمة.


المراجع:

Chernev, Alexander & Bockenholt, Ulf & Goodman, Joseph. (2015). Choice Overload: A Conceptual Review and Meta-Analysis. Journal of Consumer Psychology , 25 (2). Pages 333–358

.Alvin Toffler, Future Shock , 1970

Barry Schwartz, The paradox of choice, 2004